من المفروض أن السياسة، في تعريفها المبسّط، هي إدارة شؤون النّاس، ومن الطبيعي أن كل الناس معنيون بها بشكل مباشر، وهم يكلّفون من أجل ذلك أشخاصا وجمعيات لينوبوا عنهم في حل مشاكلهم، كي يتفرغوا هم لأشغالهم.
لكن ما يحدث عندنا غالبا أن الذين يأتون إلى هذا الميدان الذي يتطلب كفاءة وإرادة ورؤية لحل مشاكل الناس، يأتون لحل مشاكلهم الشخصية، ويفكرون في المناصب والامتيازات والعلاقات الخاصة... وهكذا، يختصرون مشاكل الناس في مشاكلهم الشخصية، ويكسرون رقبة القانون ليضعوه تحت أقدامهم، ويتقرّبون من أهل المال للاحتيال عليهم وابتزازهم باسم الحماية والطمع و...
هذه الصورة هي التي يراها النّاس اليوم عن قرب. فخلال العشرية المريضة الماضية، قام بالسطو على هذه المهمة النبيلة الكثـير من الأشرار الذين تركوا انطباعا لدى الناس، خاصة جيل الشباب، أن السياسة هي مجال المنحرفين والفاسدين. ولعلّ الذي يسمّم حياتهم ويجعلها غير صالحة للعيش، يأتي كلّه من طوفان السياسة التي لا رحمة فيها ولا كفاءة، وهم يحملون مسؤولية ذلك لأولئك السياسيين الذين يدّعون أنهم يمثلونهم، وبالتالي، ينظرون للسياسة من خلال أفعال أولئك الفاسدين.
والحقيقة أن السياسة عندنا لم تقصر في تثبيت هذه الصورة السيّئة وزخرفتها بكل الممارسات المشينة لتثبيط عزيمة الناس في المشاركة الإيجابية في صنع القرار السياسي، وتبني مشاكلهم لإيجاد حلول سريعة لها... فقد ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية ظواهر كثـيرة أساءت للعمل السياسي بشكل مباشر، منها وصول مجموعة من مدّعي السياسة إلى السلطة والتحكم في دواليب الدولة ورقاب الناس، ولم يبرهنوا عن كفاءة في تسيير شؤون الدولة ولا حل مشاكل الناس. وثانيا، استيلاء بعض أصحاب ''الشكارة''، كما يسمّيهم الناس بسخرية، على مناصب في الدولة تحتاج إلى الذكاء والمعرفة، أي تحتاج إلى ما ينقص أولئك الأشخاص بالذات. وثالثا، اغتصاب أصوات الناس بالتزوير الذي أصبحت الأجهزة تتفاخر به في جلساتها الحميمية، وكأنه نصر سياسي كبير. والحقيقة أنه كارثة نجني ثمارها المرة يوما بعد يوم، إلى حد أننا وصلنا إلى هذه الخيبة التي أصبحت فيها السياسة مهزلة يضحك منها الجميع.
صحيح أن النّاس لهم أسلحتهم الصارمة، وهم يمارسونها عفويا، ويوجهونها إلى صدر هذه السياسة الغبية التي لا تعي الدروس. فحين نطلع على حقيقة أرقام المشاركة في الانتخابات، نصاب بالخيبة من ضعفها، ونتأكد أن أغلب الجزائريين غير راضين على من يحكمونهم، وهم لا يجدون طريقة لمعاقبتهم أفضل من هجر صناديق الاقتراع. وتظهر العقوبة الأخرى القاسية في الاحتجاجات الاجتماعية الدائمة، التي تعبّر بصراحة وبطريقة مباشرة عن عدم رضا النّاس عن السياسة المتبعة.
ويكفي من هذين المثالين أن نعرف أن السياســـة في الجزائر ليست فن إدارة الناس للمشاركة الإيجابية في تقرير مصيرهم وتحقيق طموحاتهم، وإنما هي تفنّن في إقصاء الناس وتكريههم في حياتهم.